حول العالم

حاييم ناحوم.. يهودي في مجمع اللغة العربية يُحارب الصهيونية

يبقى مجهولًا هذا السر المكنون الذي يجعل محبة مصر عالقةً في قلب كلِّ مَن نزل بها من غير أهلها الذين وُلدوا فيها.

ولا يقفُ الأمرُ عند حدود المحبة والإعجاب فقط، بل يتجاوزه إلى المُنافحة عنها والتضحية من أجلها بكل غالٍ ونفيسٍ من أجل رفعتها وأمنها، وإن خالف ذلك إخوانَ الدين وأصدقاءَ المذهب؛ ربما لأن مصر كانت مثالا للحرية الدينية والسياسية؛ وربما لأنها كانت نموذجًا للنظافة والنظام؛ وربما لأن معاهدها العلمية كانت رائدة في كل مجالاتها؛ وربما لأنها كانت مُستقرًّا لكبار المُفكرين والأدباء من جموع العالميْن العربي والإسلامي المُضطهدين في بلادهم؛ وربما لأسبابٍ أخرى كثيرة.. كان هذا في العصر الذهبي لمصر، قبل أن ينهشَ وجه الوطن شرذمةٌ من بنيهِ الآبقين من محبته، غير المُدركين لمكانتهِ الضاربةِ في عُمق المكان والزمان.
كان حايم ناحوم (18731960م) واحدًا من الصنف الأول الذين لم يُولدوا في مصر، ولكنها التاطت بأفئدتهم فتعلقوا بها وقضوا حياتهم فيها، بل وأخلصوا لها وأفادوها، ربما أكثر من بعض بنيها المُدَّعين لمحبتها، فقد حارب بكل قوته أفكار العصابات الصهيونية في فلسطين، ورفض كل ما تقوم به من قتلٍ وترويعٍ واغتصاب للأراضي، وأظهر في كتاباته أن ذلك مُخالفٌ لتعاليم التلمود ولا علاقة له بالتوراة، فأحبه زملاؤه في مجمع اللغة العربية (الخالدين) حبًّا جمًّا، وكان بينهم كأحدهم، خاصة بعدما قدَّم من دراسات مهمة وجديدة في خدمة اللسان العربي، وعمل في كثير من لجان المجمع لضبط المصطلحات، وقد أفادته معرفته للعديد من اللغات في ذلك. 
ولد حايم ناحوم بقرية مغنيسيا على مقربة من أزمير سنة 1873م، وتخرج في مدارسها وهو في الثامنة عشرة من عمره، فانتقل إلى إستانبول لدراسة الفقه الإسلامي بكلية الحقوق، ثم غادرها إلى باريس فتخصص في دراسة الأديان وبحوث اللغة بالسوربون، واهتم باللغات الشرقية الحية. 
عاد إلى وطنه وهو في الرابعة والعشرين من عمره بعد أن استوفى بغيته من هذه الدراسات فعين بالمدرسة الإسرائيلية العليا أستاذا لفقه التلمود وفن الخطابة، وندب للتدريس بالكلية الحربية للمدفعية والاستحكامات.
وقام برحلة علمية واسعة إلى بلاد الحبشة لتحقيق بعض المصطلحات القديمة، وللوقوف على لهجات قبيلة (الفلاشا)، ثم عاد إلى إستانبول؛ وكان الدستور قد أعلن، فاختير حاخامًا للطائفة الموسوية في بلاد الدولة العثمانية، وتوالت أعماله الأدبية، فكتب عن حياة الرئيس داود بن إبراهيم بن موسى بن ميمون، وعن تاريخ الإسكندرية في عصر الفاطميين والأيوبيين؛ ووجه كثيرًا من المحققين والمؤلفين في هذا النطاق مثل تاريخ يوسف الصديق كما ورد في الآثار العربية للأستاذ يوسف ليبوڤتشي.
تم تعيينه حبرًا لليهود في مصر، وقد تجنس بالجنسية المصرية سنة 1929م، وفي سنة 1933م كان من الرعيل الأول الذي أسس به مجمع اللغة العربية، (حسبما تذكر مجلة المجمع، الجزء رقم 15)، وقد كان ذا حظ وافر من معرفة اللغات: كان يعرف الفرنسية والإسبانية والتركية والعربية والحبشية، ويلم ببعض لغات أخرى أوربية وشرقية، وقد أفاده ذلك كثيرًا في بحوثه عن أصول الكلمات.
شملت اللجان المجمعية التي اشترك فيها كلا من: لجنة لبحث المصطلحات العسكرية، ولجنة اللهجات ونشر النصوص القديمة، ولجنة العلوم الاجتماعية والفلسفية، ولجنة الأصول.. ومن البحوث التي ألقاها: بحث عن كلمتي “المنّ والسَّلوى”.
وعند وفاته أقام مجمع اللغة العربية تأبينًا كبيرًا له حضرته أسرته، وألقى فيه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، عضو المجمع، كلمة ضافية قال فيها: “إن الزميل الراحل قد صحب المجمع بهذا العلم، وبهذا الخلق، منذ بدأ المجمع حياته قبل نيف وثلاثين سنة، وكان قدوة في أدب الزمالة وحق العلم وديدن المثابرة”.

السابق
من هو زوج شهد الياسين ويكيبيديا
التالي
كيف اعرف كم باقي بيانات موبايلي

Leave a Reply