حول العالم

«التابعي» يكتب عن ليلة رأس السنة التي قضاها وحيدًا في بيته!

فى الرابع والعشرين من ديسمبر من كل عام تحل ذكرى رحيل آدم الصحافة وأميرها المتوج الأستاذ محمد التابعى مؤسس الصحافة الحديثة الذى تتلمذ فى مدرسته « محمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلى أمين، وجلال الحمامصى، وإحسان عبد القدوس، وأحمد رجب، وسعيد سنبل، وموسى صبرى، وفتحى غانم، وطابور طويل من قمم صاحبة الجلالة الصحافة »، وفى ذكراه الخامسة والأربعين نقدم جزءًا من المقال الذى كتبه بعنوان «أعيادنا وأعيادهم» الذى تحدث فيه عن ليلة رأس السنة التى قضاها لأول مرة وحيدا فى بيته بالقاهرة !

كامل الشناوى

محمد التابعى

أعود إلى الذكريات، اليوم «أول يناير» أجلس إلى مكتبى فى الصباح الباكر ورأسى أصفى وأبرد ما يكون فقد أقسمت أن أمضى ليلة رأس السنة فى مسكنى وحدى وأن استقبل العام الجديد بعزم جديد وسحبت نفسى إلى مسكنى، وأنا أعيش بمفردى، والنور الخافت الذى أضأته كان يلقى ظلالا ثقيلة من الذكريات.. وما أمرّ الوحدة عندما يحس المرء منا أن كل عام جديد يدنيه خطوة من خريف الحياة، وأمام المدفأة تراخيت فى مقعد كبير، وأدرت مفتاح الراديو وإذا بالمذيع يقول إنه باق على استئناف البرنامج لحظات سوف يملؤها باسطوانة للآنسة أم كلثوم، ولقد شاء ذوق المذيع أن يختار أغنية «ياما أمرّ الفراق» وكان يمكنه، والليلة رأس السنة، أن يختار مثلا «افرح يا قلبى»، أو «يا بهجة العيد السعيد» ولكنه اختار «ياما أمرّ الفراق».. كأنما النور الخافت والوحدة والقلب الكسير كانت تحتاج فى انسجامها إلى هذا اللحن الحزين !

إقرأ أيضاً | مصطفى أمين يروي قصة اكتشاف خليفة «رخا»

كانت هذه أول مرة امضى فيها عيد رأس السنة فى مصر، منذ خمس سنوات، وها أنا أمضيه وحدى، أنا الغريب فى بلدى، الغريب بين الأهل والأصحاب، ومن وراء غلالة من الدمع المحبوس مر شريط طويل من الصور، بعضها فى مصر، ومعظمها هناك عبر البحار، فى باريس ولندن وزيوريخ وسان موريتز وبال وبودابست وبرلين وانسبروك وبروكسيل، وبرجن وأوسلو ونيويورك، بل فى ترنيداد بجزر الهند الغربية، صور، وكل صورة منها صفحة من كتاب الحياة، كتبتها بدم قلبى، وها هو ذا القلب قد جف أو كاد، فهل فى مداده القانى بقية لكتابة سطر واحد جديد ؟

دقت الساعة الحادية عشرة، ساعة واحدة باقية على مولد العام الجديد، ساعة واحدة ثم تطفأ الأنوار لكى يتبادل المحبون الأمانى والآمال، والقبلات، وما أنا فى حاجة إلى إطفاء الأنوار، فإن قلبى مغمور فى الظلام، وهذه السطور كتبتها منذ نحو عشرين عاما، أى قبل أن أتزوج وأرزق بطفلين والثلاثة هم الآن عندى كل شىء فى الحياة والحمد لله، وأنقل القراء لبعض ما كتبه مصطفى أمين فى العدد نفسه من «آخر ساعة» منذ نحو عشرين عاما، ولم يكن قد أكمل بعد السابعة والعشرين من عمره.. قال : « أقبل رأس السنة وقلبى معتنق مذهب لينين وستالين أى المبادئ الشيوعية فى الهوى والغرام فقد كنت أقمت على قلبى خط ماجينو يمنع الغزو ويقف دون المغيرين، ثم سقطت «قلعة» قلبى فى يد الغزاة والفاتحين فاستعبدها البعض وأذلها الآخرون، ثم تحرر قلبى من الهوى والهوان وزال استعباد الفرد ليحل مكانه استعباد المجموع، ولى ثلاث صديقات أحبهن جميعا ولست أعرف من المفضلة عندى، فالأولى أجملهن والثانية أذكاهن والثالثة أرشقهن، ولو كان الثلاث واحدة لكانت المرأة الكاملة الوحيدة فى الوجود، وكان الموعد الأول فى فندق مينا هاوس والحضور بسترة «الفراك»، وكان الموعد الثانى فى فندق هليوبوليس بمصر الجديدة والحضور بسترة «السموكن»، والموعد الثالث فى المعادى والحضور بالملابس العادية، وحرت بين المواعيد الثلاثة والنساء الثلاث، وأخيرا قررت أن اعتذر عن عدم الذهاب إلى المواعيد الثلاثة، وأمسكت بالتليفون وقلت للأولى إن هناك أزمة وزارية، وقلت للثانية إننى مشغول بأخبار الغزو الألمانى لإيطاليا، وقلت للثالثة إن وزير الأوقاف قد استدعانى ليعطينى تصريحا عن أوقاف المسلمين، وذهبت أنا وصديقى كامل الشناوى إلى صالة بديعة مصابنى وجلسنا وحدنا نتطلع إلى وجوه الفتيات الراقصات كما يتطلع الجائع إلى طعام وراء زجاج فترينة مطعم مشهور، ودقت الساعة الثانية عشرة وأطفئت الأنوار وحدث هرج ومرج، وطرقعت القبلات وتلفت حولى لأجد وجها أقبله فلم أجد سوى كامل الشناوى، وترددت هل أقبله أو لا ؟ وأقنعت نفسى أن عملا كهذا هو الذى يسميه القانون «فعل علنى فاضح فى الطريق العام»، ثم أضيئت الأنوار، لكننى أحسست كأن الظلام لايزال، فقد أضيئت الأنوار فى عيون جميع الجالسين فى صالة بديعة ماعدا عينى، كأن الظلام يزداد حلكة، وكانت عيناى تبكيان بلا دموع، وكأن فى قلبى مأتما على الذكريات، كانت هذه أول سنة بعد سبع سنوات لا افتتحها بقبلة حارة على شفتين حارتين، وكانت هذه أول سنة لا اشترك فى ضجيج الراقصين، وكانت هذه أول مرة أشعر فيها أننى أعيش حقا على «هامش الحياة»، ومرت أمام عينىّ، قبلاتى السبع الماضيات فى نيويورك وواشنطون وروما والمحيط الأطلسى.. و.. و.. غيرها.. هذه القبلات التى كانت «البروكة» التى أتبرك بها كل عام!.

محمد التابعى
«الأخبار» 1 يناير1960

السابق
من هم العتوب
التالي
اسم البطيخ في المغرب – موقع جاوبني

Leave a Reply